فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} خبر محذوف. أي: هذه السورة. والتنكير للتفخيم: {وَفَرَضْنَاهَا} أي: أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابًا قطعيًّا: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَْ} أي: تتذكرونها فتعملون بموجبها.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله، في تفسير هذه الآيات: هذه السورة فرضها تعالى بالبينات والتقدير والحدود، التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه. ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود. وبيّن فيها فرض العقوبة وآية الجلد وفريضة الشهادة على الزنى وفريضة شهادة المتلاعنيْن. كل منهما يشهد أربع شهادات بالله. ونهى فيها عن تعدي حدود الله في الفروج والأعراض والعورات وطاعة ذي السلطان. سواء كان في منزله أو ولايته. ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه. إذ الحقوق نوعان: نوع لله فلا يتعدى حدوده، ونوع للعبادة فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك، فليس لأحد أن يفعل شيئًا في حق غيره إلا بإذن الله. وإن لم يإذن المالك، فإذن الله هو الأصل، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه. ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم وفي الأمور الجامعة. كالصلاة والجهاد ونحوهما. ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء. وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وعن الصبر على ذلك، فإنه ضياء. فإن حفظ الحدود بتقوى الله، يجعل لصاحبه نورًا. كما قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28] الآية. فضدّ النور الظلمة، ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين بأعمال الكفار. وأهل البدع والضلال. فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} (39) الآية، إلى قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} (40) الآية، وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة. وظلم العبد نفسه من الظلم. فإن للسيئة ظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق. كما روي ذلك عن ابن عباس، يوضحه أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور، وأعمال الكفار بالظلمة. والإيمان اسم جامع لكل ما يحبه الله. والكفر اسم جامع لكل ما يبغضه، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصي. كما لا يصير مؤمنًا إذا كان معه بعض فروع الإيمان. ولغضّ البصر اختصاص بالنور كما في حديث أبي هريرة الذي صححه الترمذيّ: «إن العبد إذا أذنب...» الحديث. وفيه: فذلك الرّان الذي ذكر الله. وفي الصحيح: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة». والغين حجاب رقيق أرقّ من الغيم، فأخبر أنه يستغفر ليزيل الغين، فلا يكون نكتة سوداء. كما أنها إذا أزيلت لا تصير رينًا. وقال حذيفة: إن الإيمان يبدو في القلب لمظة بيضاء. فكلما ازداد العبد إيمانًا، ازداد قلبه بياضًا، وفي خطبة الإمام أحمد، في الرد على الزنادقة: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى. يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصّرون بنور الله أهل العمى. إلخ.
وقد قرن الله سبحانه بين الهدى والضلال بما يشبه هذا. كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} [فاطر: 19- 20] وقال: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: 24]، وقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] الآيات، وهذا النور الذي يكون للمؤمن في الدنيا على حسن عمله واعتقاده، يظهر في الآخرة، كما قاله تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12- 15] الآية، فذكر النور هنا عقيب أمره بالتوبة، كما في سورة النور عقيب أمره بغض البصر والتوبة. وذكر ذلك بعد أمره بحقوق الأهلين والأزواج وما يتعلق بالنساء. وقال في سورة الحديد: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 12- 15]، فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذي كان المؤمنون يمشون به، ويطلبون الاقتباس من نورهم، فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم. كما أنهم في الدنيا لما فقدوا النور: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] الآية. وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} شروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات وبيان أحكامها. أي: كل من زنى من الرجال والنساء، فأقيموا عليه هذا الحد. وهو أن يجلد، أي: يضرب على جلده مائة جلدة، عقوبة لما صنع: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي: رقة ورحمة في طاعته فيما أمركم به، من إقامة الحد عليهما، على ما ألزمكم به: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: تصدقون بالله ربكم وباليوم الآخر، وأنكم مبعوثون لحشر القيامة وللثواب والعقاب. فإن من كان بذلك مصدقًا، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه، خوف عقابه على معاصيه: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: وليحضر جلدهما طائفة من أهل الإيمان بالله ورسوله، قال ابن جرير: العرب تسمي الواحد فما زاد طائفة.
قال ابن تيمية عليه الرحمة: فأمر تعالى بعقوبتهما بحضور طائفة من المؤمنين. وذلك بشهادته على نفسه أو شهادة المؤمنين عليه. لأن المعصية إذا ظهرت كانت عقوبتها ظاهرة. كما في الأثر: من أذنب سرًا فليتب سرًا. ومن أذنب علانية فليتب علانية، وليس من الستر الذي يحبه الله، كما في الحديث: «إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها. فإذا أعلنت ولم تنكر، ضرت العامة» فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن. ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة. كما روي عن الحسن وغيره، لأنه لما أعلن استحق العقوبة. وأدناها أن يذم عليها لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته. ولو لم يذكر إلا بما فيه لاغتر به الناس. فإذا ذكر انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته. قال الحسن: أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اذكروا بما فيه كي يحذره الناس. والفجور: اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام قبيح، يدل السامع له على فجور قلب قائله. ولهذا استحق الهجرة، إذا أعلن ببدعة أو معصية، أو فجور أو تهتك أو مخالطة لمن هذا حاله. بهذا لا يبالي بطعن الناس عليه. فإن هجره نوع تعزير له. فإذا أعلن السيئات، أُعْلِنَ هجره، وإذا أسر أُسرَّ هجره، إذ الهجرة هي الهجرة على السيئات وهجرة السيئات، كقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، وقوله: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، وقد روي عن عمر؛ أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر وذهب به أخوه إلى أميرها عَمْرو بن العاص ليحده، جلده سرًا، فبعث إليه عمر ينكر عليه. ولم يعتدّ بذلك حتى أرسل إلى ابنه، فأقدمه المدينة وجلده علانية، وعاش ابنه مدة ثم مرض ثم مات ولم يمت من الجلد، ولا ضربه بعد الموت، كما يزعمه الكذابون.
وقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} نهى تعالى عما يأمر به الشيطان في العقوبات عمومًا وفي الفواحش خصوصًا. فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة، والرأفة التي يزينها الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش، حتى يدخل كثير من الناس بسبب هذه الآفة في الدياثة، إذا رأى من يهوى بعض المتصلين به، أو يعاشره عشرة منكرة ولو كان ولده، رقّ به وظن أن هذا من رحمة الخلق. وإنما ذلك دياثة ومهانة وعدم دين وإعانة على الإثم والعدوان. وترك للتناهي عن المنكر. وتدخل النفس به في القيادة التي هي أعظم من الدياثة كما دخلت عجوز السوء مع قومها، في استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك، وكانت في الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط، وفي الباطن منافقة على دين قومها. لا تقلي عملهم كما قلاه لوط. وكما فعل النسوة بيوسف. فإنهن أعنَّ امرأة العزيز على ما دعته إلى من فعل الفاحشة معها ولهذا قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]، وذلك بعد قولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب. فإن الشهوة توجب السكر كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وفي الصحيحين ومن حديث أبي هريرة: «العينان تزنيان» الخ فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع كالنظر والاستمتاع والمخاطبة. ومنهم من يرتقي إلى المس والمباشرة. ومنهم من يقبل وينظر. وكل ذلك حرام. وقد نهانا الله سبحانه أن تأخذنا بالزناة رأفة، بل نقيم عليهم الحد، فكيف بما دونه من هجر؟ ونهي وتوبيخ وغير ذلك؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقِلَاهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنى المذكورة في الحديث. والمحب، وإن كان يحب النظر والاستمتاع بصورة المحبوب وكلامه، فليس دواؤه في ذلك، لأنه مريض. والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه، فأخذتنا به رأفة، فقد أعناه على ما يهلكه ويضره وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، أي: فيها الشفاء والبرء من ذلك. بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريهًا، مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات وأن يحمى عما يزيد علته. ولا يظن أنه إذا استمتع بمحرم يسكن بلاؤه. بل ذلك يوجب له زيادة في البلاء. فإنه وإن سكن ما به عقيب استمتاعه، أعقبه ذلك مرضًا عظيمًا لا يتخلص منه، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء. ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر من ألم المرض الباقي. وبهذا يتبين أن العقوبات الشرعية أدوية نافعة. وهي من رأفة الله بعباده، الداخلة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فمن ترك هذه الرحمة النافعة، لرأفة بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه، وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو في ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض النساء بمرضاهن وبمن يربينهن من أولادهن في ترك تأديبهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير. ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وبرودة القلب والدياثة. وهو في ذلك من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظرائه. وهو بمنزلة جماعة مرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم، فوجد كبيرهم مرارته، فترك شربه. ونهى عن سقيه للباقين. ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانين محبوبًا له. إما لقرابة أو مودة أو إحسان، أو لما يرجوه منه، أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب. ويتأوّل «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ». وليس كما قال. بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه. بل قد ورد «لا يدخل الجنة ديوث» فمن لم يكن مبغضًا للفواحش كارهًا لها ولأهلها، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها، لم يكن مريدًا للعقوبة عليها. فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه، قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} الآية. في دين الله هو طاعته وطاعة رسوله. المبنيّ على محبته ومحبة رسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. فإن الرأفة والرحمة يحبهما لله ما لم تكن مضيعة لدين الله. فالرحمة مأمور بها بخلاف الرأفة في دين الله. والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها. فإنه إن رآه مائلًا إلى الرحمة، زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار، وإن رآه مائلًا إلى الشدة، زيّن له الشدة في غير ذات الله، فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه. ويترك من اللين والصلة والإحسان والبر ما يأمر الله به. فالأول مذنب والثاني مسرف. فليقولا جميعًا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عِمْرَان: 147] الآية. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فالمؤمن بذلك يفعل ما يحبه الله، وينهى عما يبغضه الله. ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه، فتارة تغلب عليه الشدة: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، والنظر والمباشرة، وإن كان بعضه من اللمم، فإن دوام ذلك وما يتصل به، من المعاشرة والمباشرة قد تكون أعظم بكثير من فساد زنى لا إصرار فيه. بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك. كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] الآية. ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره عن امرأة العزيز المشركة وعن قوم لوط. وقد جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم الحدود فيما رواه أبو داود من حديث ابن عمر: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضادَّ الله في أمره. ومن خاصم في باطل، وهو يعلم، لم يزل في سخط لله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه، حبس في ردعة الخبال حتى يخرج مما قال». فالشافع في الحدود مضادٌّ لله في أمره. فلا يجوز أن يأخذ المؤمن رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصي، وجماع ذلك كله قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، وقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، فإن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر كما في الصحاح: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الخ. ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة بهم. ولا منافاة بين كون الواحد يحب من وجه ويبغض من وجه، ويثاب من وجه ويعاقب من وجه. خلافًا للخوارج والمعتزلة. ولهذا جاء في السنة أن من أقيم عليه الحد، يرحم من وجه آخر، فيحسن إليه ويدعى له. وهذا الجانب أغلب في الشريعة، كما في صفة الرب سبحانه وتعالى. ففي الصحيح: «إن رحمتي تغلب غضبي» وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49- 50]، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، فجعل الرحمة صفة مذكورة في أسمائه. وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته. ومن هذا ما أمر الله تعالى به من الغلظة على الكفار والمنافقين. وقال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية، وفي الحديث بيان السبيل الذي جعله الله لهن وهو جلد مائة وتغريب عام في البكر، وفي الثيب الرجم لكن الذي في الحديث الجلد والنفي للبكر من الرجال وأما الآية ففيها ذكر الإمساك في البيوت للنساء إلى الموت، والسبيل للنساء خاصة. ومن الفقهاء من لا يوجب مع الحد تغريبًا، ومنهم من يفرق بين الرجل والمرأة. كما أن أكثرهم لا يوجبون الجلد مع الرجم. ومنهم من يوجبها جميعًا. كما فعل بشراحة الهمدانية، حيث جلدها ثم رجمها. وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة نبيه. رواه البخاري ّ. والله سبحانه ذكر في سورة النساء ما يختص بهن من العقوبة. ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16]، فإن الأذى يتناول الصنفين. وأما الإمساك فيختص بالنساء، لأن المرأة يجب أن تصان بما لا يجب مثله في الرجال ولهذا خصت بالاحتجاب وترك الزينة وترك التبرج، لأن ظهورها يسبب الفتنة، والرجال قوامون عليهن، وقوله: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، دل على شيئين: على نصاب الشهادة وعلى أن الشهداء على نسائنا منا. وهذا لا نزاع فيه. وأما شهادة الكفار بعضهم على بعض ففيها روايتان عن أحمد. الثانية أنها تقبل. اختارها أبو الخطاب. وهو قول أبي حنيفة. وهو أشبه بالكتاب والسنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة أهل ملة على ملة، إلا أمتي» فمفهومه جواز شهادة أهل الملة الواحدة بعضهم على بعض. ولكن فيه: أن المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم، لقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وفي آخر الحج مثلها وفي البخاري من حديث أبي سعيد: يدعى نوح، الحديث وكذلك فيهما من حديث أنس، شهادتهم على الجنازتين خيرًا وشرًا، فقال: «أنتم شهداء الله في أرضه» الحديث. ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة لم يشوبوا الإسلام بغيره، كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة، بخلاف أهل البدع والأهواء، كالخوارج والروافض، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن هذه الحقيقة التي جعلها الله لأهل السنة، قال فيهم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» واستدل من جوّز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] الآية، قالوا: دلت على قبول شهادتهم على المسلمين. ففيه تنبيه على قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأوْلى. ثم نسخُ الظاهر لا يوجب نسخ الفحوى، والتنبيه على الأقوى. كما نص عليه أحمد وغيره من أئمة الحديث الموافقين للسلف. ولهذا يجوز في الشهادة للضرورة ما لا يجوز في غيرها. كما تقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال. حتى نص أحمد على قبول شهادتين في الحدود التي تكون في مجامعهن الخاصة. فالكفار الذين لا يختلط بهم المسلمون أولى، والله أمرنا أن نحكم بينهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم رجم الزانييْن من اليهود، ومن غير سماع إقرار منهم ولا شهادة مسلم. ولولا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز ذلك. وفي تولي بعضهم مال بعض، نزاع، فهل يتولى الكافر العدل في دينه، مالَ ولده الكافر؟ على قولين والصواب المقطوع به أن بعضهم أولى ببعض وقد مضت السنة بذلك وسنة خلفائه. وقوله تعالى: {فَآذُوهُمَا} أمر بالأذى مطلقًا، ولم يذكر صفته ولا قدره. ولفظ الأذى يستعمل في الأقوال كثيرًا. كقوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عِمْرَان: 111]، والإعراض هو الإمساك عن الإيذاء. فالمذنب لا يزال يؤذي وينهى ويوبخ إلا أن يتوب. وأدنى ذلك هجره. فلا يكلم بالكلام الطيب. وهذه محكمة فمن أتى الفاحشة وجب إيذاؤه بالكلام الزاجر إلى أن يتوب. وليس ذلك محدودًا بقدر ولا صفة. إلا ما يكون زاجرًا له داعيًا إلى حصول المقصود، وهو توبته وصلاحه. وعلَّقه تعالى على التوبة والإصلاح، فإذا لم يوجدا، فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض موجودًا. فأما من تاب بترك الفاحشة ولم يصلح، فتنازعوا: هل من شرط التوبة صلاح العمل؟ على قولين. وهذه تشبه قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، فعلق تخلية سبيلهم على التوبة والعمل الصالح. مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين وجب الكفّ عنهم. ثم إن صلوا وزكوا، وإلا عوقبوا على ترك الفعل. لأن الشارع في التوبة شرع الكف عن أذاه. ويكون الأمر فيه موقوفًا على التمام. وكذلك التائب من الفاحشة. وهذه الآية مما يستدل به على التعزير بالأذى. والأذى، وإن كان كثيرًا يستعمل في الكلام، فليس مختصًّا به. كقوله لمن بصق في القبلة: «إنك قد آذيت الله ورسوله»، وكذا قوله في حق فاطمة: «ويؤذيني ما آذاها» وقوله لمن أكل البصل: «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» وهل يكون من توبته اعترافه بالذنب؟ فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد وكذب الشهود أو ثبت بشهادة شهود. فيه نزاع. فذكر أحمد أنه لا توبة لمن جحد. واستدل بقصة عليّ بن أبي طالب: أنه أتى بجماعة ممن شهد عليهم بالزندقة، فاعترف منهم ناس فتابوا. فقبل توبتهم. وجحد جماعة فقتلهم. وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: «فإن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه». فمن أذنب سرًا فليتب سرًا، كما في الحديث: «ومن ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر» الخ، وفي الصحيح «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» الحديث. فإذا ظهر من العبد الذنب فلابد من ظهور التوبة. ومع الجحود لا تظهر التوبة. فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب. ولهذا كان السلف يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجورًا، فإن هذا أظهر حال الضالين، وهذا أظهر حال المغضوب عليهم. ومن أذاه منعه، مع القدرة، من الإمامة والحكم والفتيا والرواية والشهادة. وأما بدون القدرة، فليفعل المقدور عليه. ولم يعلق الأذية على استشهاد أربعة، وليس هذا من حمل المطلق على المقيد. لأن ذلك لابد أن يكون فيه الحكم واحدًا، مثل الإعتاق. فإذا كان متفقًا في الجنس دون النوع كإطلاق الأيدي في التيمم، وتقييدها إلى المرافق في الوضوء، فلا يحمل. ولم يحمل الصحابة والتابعون المطلق على المقيد في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، وقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]، قالوا: الشرط في الربائب خاصة. قالوا: أبهموا ما أبهم الله. والمبهم هو المطلق. والمشروط فيه هو المقيد. لكن تنازعوا: هل الموت كالدخول؟ على قولين. وذلك لأن الحكم مختلف، والقيد ليس متساويًا في الأعيان. فإن تحريم جنس، ليس مثل تحريم جنس يخالفه. كما أن تحريم الدم والميتة ولحم الخنزير، لما كان أجناسًا، فليس تقييد الدم بالمسفوح موجبًا تقييد الميتة والخنزير أن يكون مسفوحًا. وهنا القيد قيد الربيبة بدخول أمها.